كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأوجب الشافعي الرجم على الذميين، كما أوجب على المسلمين، تلقيا من الخبر النص في حق الذميين من عموم قوله عليه الصلاة والسلام:
«الثيب بالثيب جلد مائة والرجم».
ومالك يقول: إنما رجمهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من حيث لم يكن لليهود من ذمة، وتحاكموا إليه فحكم بينهما بحكم التوراة، فلم يكن في قتله نقض ذمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، ولا بعد في إجراء أحكامهم عليهم، وهذا بعيد، فإن قتل الكافر إن جاز، فإنما يجوز بغير وجه الرجم، والرجم لم يكن مشروعا، فيحرم بحكم شرعنا، فكيف يجوز إجراؤه عليهم على موجب دينهم؟
وإذا ثبت ذلك، فقد قال تعالى: {فَاجْلِدُوا} فالظاهر يقتضي فعل أول ما يسمى جلدا، فإذا فعله واستوفى العدد، فقد وفي الظاهر حقه، وما زاد على ذلك على أصل التحريم.
ولا يجوز أن يتخير الجلاد بين التخفيف والتشديد، فإنه لا يجوز أن يتخير الإنسان بين عقوبة مسلم وتركها.
والمفسرون والفقهاء، حملوا ظاهر الآية على ما جرت به العادة من فعل الضرب أو التأديب.
وروى علي بن موسى القمي أنه صلّى اللّه عليه وسلّم أوتي برجل قد أصاب حدا، وأوتي بسوط شديد، فقال: دون هذا، وأوتي بسوط دونه فقال:
هذا.
وروي عن عمر رضي اللّه عنه أنه أمر برجل يضرب الحد فقال: لا ترفع إبطك.
وعنه أنه اختار سوطا بين السوطين.
فيجب إتباع السنة في ذلك وهو المتعارف في الضرب، ولم يختلفوا في أن هذا الجلد يفرق على جسمه، لأنه المتعارف المتعالم، فإنه إن جمع في مكان واحد خيف عليه القتل، وخرج عن طريقة الضرب.
ولا خلاف أنه يتقي في باب الضرب مواضع المقاتل، والمواضع التي يشين الأثر فيها كالوجه والمذاكر.. وكل ذلك ليس مأخوذا من اسم الجلد، وإنما هو مأخوذ من معنى الحد، والمقصود به.
وظن ظانون أن معنى قوله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} تشديد الضرب. وروي ذلك عن قتادة.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: التعزير أشد الضرب.
وضرب الزنا أشد من ضرب الشارب.
وضرب الشارب أشد من ضرب القاذف.. وقال الثوري: ضرب الزنا أشد من ضرب القاذف.
وضرب القذف أشد من ضرب الشرب، والظاهر يقتضي التسوية، وهو مذهب مالك والشافعي.
وقوله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ} يحتمل أن يكون في ترك الحد وتضييعه، وقد يكون في نقصانه، فلا معنى لتخصيصه ببعض هذه المحامل.
قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية 2: اختلف في المراد بالطائفة، فحملها بعضهم على العشرة، وقالوا أقلها عشرة ولا نهاية للأكثر، وقال آخرون: أقله رجل إلى ألف، والأظهر أنه ثلاثة.. ومما احتجوا به من أن حد الزنا ينبغي أن يكون أشد من حد القذف والشرب، أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أمر بضرب الشارب بالجريد والنعال، وضرب الزاني إنما يكون بالسوط، وهذا فيه نظر، فإن ضرب الشارب ما كان مقدرا، والكلام فيما تقدر منه بمبلغ معلوم، وحين أمر بضرب الشارب بالنعال، كان حد الشرب كالتعزير.
ومما قالوه أن القاذف يجوز أن يكون صادقا، فلم يقطع بجريمته، والزنا بخلافه، فكيف يسوي بين الضربين، وهذا هوس، فإن الشرع ما أوجب الحد إلا عند القطع بكذبه وبقوله شرعا، فلا حاصل لما قالوه، ولذلك ردت شهادته، وقال تعالى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ} الآية 13. وعلى أنا أظهرنا مزية الزنا بزيادة الجلدات، فمن أين يجب ظهور المزية ووصف الضرب من جهة الشدة.
قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ} الآية 3.
روى إسماعيل بن إسحاق عن ابن مسعود أنه قال في الرجل يزني بالمرأة ثم يتزوجها: إنهما زانيان ما عاشا.
وروي مثله عن عائشة وعن علي.
وروي عن ابن مسعود أنه قال: إذا تاب الرجل حل له أن يتزوجها.
وروي عن ابن عمرو بن عباس فيمن زنى بها ثم تزوجها، أن أوله سفاح وآخره نكاح، فأما المروي في سبب نزول الآية، فهو أن رجلا كان يقال له مرثد كان يحمل الأسرى وله صديقة بمكة يقال لها عنان من البغايا، قال: فسألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقلت: أنكحني عنانا، فأمسك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولم يرد علي شيئا حتى نزلت هذه الآية، فقال لي: يا مرثد، إن الزاني لا ينكح إلا زانية.
ونقل عن سعيد بن المسيب أن الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ} ودليل النسخ، أنه جوز للزاني أن ينكح مشركة، وذلك غير جائز، فإنه منسوخ بقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ}.
وقال بعضهم: هو وارد في نفس الوطء لا في عقد النكاح، فكأنه قال: وطء الزنا لا يقع إلا من زان أو مشرك، فأما من المؤمن فلا يقع.
وهذا بعيد، فإن قوله: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ} يقتضي تقدير كونه زانيا، وإن النكاح ممتنع إما نهيا وإما خبرا، فلا يجوز حمله على الوطء.
ووطئ الزانية محرم على غير الزاني، كتحريمه على الزاني، فأقوى التأويلات أن الآية نزلت في بغايا الجاهلية، والمسلم ممنوع من التزوج بهن، فإذا تبن وأسلمن صح النكاح، وإذا ثبت ذلك، فلا يجب كونه منسوخا.
وذهب بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي إلى أن المجلود في الزنا لا يتزوج إلا مجلودة مثله، فإن تزوج غير زانية، فرق بينهما بظاهر هذه الآية عملا بالظاهر.
ولكن يلزمه عليه أنه يجوز للزاني أن يتزوج بالمشركة، ويجوز للزانية أن تزوج نفسها من مشرك.
وهذا في غاية البعد، وخروج عن الإسلام بالكلية، بما قال هؤلاء، إن الآية منسوخة في المشركة خاصة دون الزانية، وهؤلاء يروون عن ابن عباس وأبي هريرة وأبي بن كعب وابن عمر مثل مذهبهم. ورووا عن المقبري عن أبي هريرة أنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله، واستدلوا عليه بقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ}- إلى قوله- {مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ} فإنه تعالى لم يبح عند الضرورة وخوف العنت إلا بشرط الإحصان، ففي حال الضرورة لأن يحرم أولى.
واستدلوا عليه أيضا بما ثبت من وقوع الفرقة باللعان، لأنه قد أقر بأنها زنت، فإذا صح الزنا ببينة، فالمنع من تزوجها أولى.
وأما الكلام في الآية فعلى ما تقدم، وأما الأخبار فمتعارضة والقياس لا وجه له بإقرار نفسه فيما يوجب الفرقة، فلما ثبت بالإجماع أن لا فرقة في هذه الحالة، ثبت أن عند اللعان إنما تجب الفرقة لأمر آخر، إذ لو وجب لكونها زانية، لكان اعترافه بذلك فيها، كاعترافه بأنها أخته من نسب أو رضاع، في ألا ينتظر في تحريمها عليه أمر سواه.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ} الآية 4.
والإحصان يختلف معناه باختلاف مواضعه على ما شرحه الفقهاء.
والمعتبر هاهنا في إحصان المقذوف: البلوغ، والعقل، والإسلام، والحرية، والعفة من الزنا، وكثير من ذلك لا يدل عليه اللفظ.
وليس في نفس اللفظ من طريق اللغة، إلا دلالة تخصيص الرمي بالزنا، إلا أن يشبه أن يكون المراد به ذلك، مع ما ذكرنا من الإحصان، ثم لما اجتمعت الأمة في حق المحصنة على أن معنى الرمي بالزنا، جعلوا المحصن في معنى المحصنة.
وقوله: {بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ} يدل على أن شهادة الأربعة شرط في إثبات الزنا، وليست لصفات الأربع ذكورة وعدالة وحرية ذكر، لكن الإجماع منعقد عليه، وليس في الآية رمي المرأة الرجل، ولكنها في معناه شرعا.
واختلف الناس في التعريض بالقذف، فمالك يوجب به الحد، والشافعي وكافة العلماء على خلافه، ولا شك أن الشرع إذا علق الحد على الصريح، فالمحتمل دونه، فلا يلحق به، سيما في الحدود التي تدرأ بالشبهات.
ومن أقوى ما يتعلق به في ذلك ما قاله الشافعي، من أن التعريض بالخطبة لم يلحق بالصريح مع القرائن الدالة على مقصود المتعرض، فليكن في القذف كذلك، فإنه أولى بالسقوط بالشبهة.
وإذا ثبت ذلك، فقد اختلف العلماء في حد العبد، فقال أكثر العلماء عليه إذا قذف أربعون.
وقال الأوزاعي: بجلد ثمانين.
وعن القاسم بن عبد الرحمن عن ابن مسعود، أنه قال في عبد قذف حرا أن يجلد ثمانين.
وقال أبو الزناد: جلد عمر بن عبد العزيز عبدا في الفرية ثمانين.
وقال اللّه تعالى: {فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ} وفهمنا من ذلك أن حد الزنا حق اللّه تعالى، وأنه ربما كان أخف ممن قبلت نعم اللّه عليه، فحسن ممن عظمت نعم اللّه تعالى عليه، وأما حد القذف فحق الآدمي وجب للجناية على عرض المقذوف، والجناية لا تختلف بالرق والحرية. وربما قالوا: لو كانت تختلف لذكرها كما ذكرنا في الزنا؟ وغاية ما يقال أن العبد منزجر عن قذف الحر أكثر من انزجار الحر، واختلف في حد القاذف دون مطالبة المقذوف، فقال ابن أبي ليلى: يحده الإمام وإن لم يطالبه المقذوف.
وقال مالك: لا يحده الإمام قبل طلبه، إلا أن يكون الإمام قد سمعه فيحده، إذا كان مع الإمام شهود عدول.
وهذا مشكل على أبي حنيفة، إذا جعله حقا للّه تعالى، فإن حق اللّه تعالى كيف يتوقف على طلب الآدمي، وإذا لم يسقط بإسقاطه، كيف يتوقف على طلبه؟ فهو مناقضة منهم.
واعلم أن قول اللّه تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَدًا} الآية 4: حكم من اللّه تعالى في القاذف بأربعة شهداء، فعلق الشرع على القذف عند إظهار العجز عن إقامة الشهادة ثلاثة أحكام:
أحدها: جلد ثمانين.
والثاني: بطلان الشهادة.
والثالث: الحكم بتفسيقه إلى أن يتوب.
فقال قائلون: بطلت شهادته ولزمه سمة الفسق قبل إقامة الحد، وهو قول الشافعي والليث بن سعد.
وقال أبو حنيفة: شهادته قبل الحد مقبولة.
والذي ذكره الشافعي ظاهر جدا، فإن الحد لا يقام عليه إلا بعد الحكم بفسقه، فأما أن يتقدم إقامة الحد الحكم بفسقه فكلا، ولا يبتدأ بإقامة الحد عليه إلا بعد ظهور عجزه، لا أن بإقامة الحد يظهر عجزه.
وبالجملة: الامتناع من إقامة الحد مع تردد الخبر بين الصدق والكذب أمثل من الحكم بفسقه والتردد في شهادته، فإن الشهادة ترد بالتهمة والشبهة، فكيف يتأتى لعاقل أن يقول ذلك.
ونقرر ذلك على وجه آخر فنقول: الموجب لرد الشهادة لا يجوز أن يكون هذا الحد، فإن إقامة الحد من فعل غيره فيه، فلا يجوز أن يؤثر، ولأنه إلى التكفير أقرب، فالحدود كفارات لأهلها.
فهذه المسألة مقتبسة من الآية.
المسألة الأخرى: أن شهادة القاذف تقبل بعد التوبة، خلافا لأبي حنيفة.
وظن ظانون أن هذه المسألة مبنية على أن الاستثناء إذا تعقب جملا، هل ترجع إلى الجميع أم إلى الجملة الأخيرة؟ ومن يرده إلى الجملة الأخيرة يحتج برجوعه إليه في مثل قوله تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ} فكانت المرأة مستثناة من المنجين لأنها تليهم، ولو قال: لفلان علي عشرة إلا ثلاثة إلا درهم، فقوله إلا درهم يرجع إلى الثلاثة.